البيئة تستعيد عذريتها وجماليتها في ظل الحجر الصحي
إذا ما نحن استقرأنا الأرقام التي حققها الإنسان منذ الخليقة فسنجد أنفسنا أمام شبكات عملاقة نسجها لقهر كل الصعاب والحواجز، التي حالت دون بلوغ مراميه ومآربه؛ بل امتد به قلقه وجشعه إلى تكديس ما يكفيه من المؤن والعتاد بغية الاطمئنان على مستقبله البعيد..
وطوال آلاف القرون، وعلى مر الحقب التاريخية التي شهدها مسرح أحداثه، كان هذا الإنسان السباق إلى اكتشاف باطن الأرض وسبر أغوارها ليفرغها بالكاد من كل ما تحبل به من معادن وفلزات. كما عمد الإنسان إلى مشط سطح الأرض والتحكم في كل ثرواتها، تحت هدير أياديه الفولاذية (البلودزر) Drilling rig /Bulldozer التي لا ترحم، قبل أن يتوجه بعدته إلى تطويع البحار ببناء مدن عائمة، أو اتخاذه من أعماقه منصات إطلاق صواريخ ذات قدرات تدميرة خرافية.
وعلاوة على كل هذا الزحف والتعطش للقهر والتسلط، راح يفكر في غزو الفضاء الخارجي بحثا عن كائنات قصد إبادتها، قبل أن يتخذ من كواكبها ملاذا ومخبئا مما قد تحمله الأرض يوما من أوبئة قصد التخلص من الجنس البشري !
بيد أن فاتورة هذه الفتوحات (الحضارية) التي حققها الإنسان كانت أغرب مما قد نتصور؛ يمكن إجمال مؤشراتها فيما يلي:
* وضع يده على أكثر من 90% من معادن الأرض السطحية منها والجوفية؛
* تلويثه للمياه وإلحاق أعطاب بفرشاتها الباطنية تفوق 80%؛
* إفناؤه لطاقة الأرض على الإخصاب بمضاعفة محاصيلها من 2 إلى 3 دورات في السنة؛
* إبادته لأنواع من الطيور والكائنات البحرية بسبب التغير المناخي وتلوث الهواء؛
* تحويل بقع أرضية إلى مدافن للنفايات النووية؛
* ازدياد سرعة الاستهلاك البشري حرصا على وتيرة إنتاجية المصانع دون توقف؛
* تراجع فعاليات أجهزة المراقبة والتتبع لوتيرة الجودة أمام العامل الآلي Robot؛
* اتساع هوة الفقر بين دول ومجموعات بشرية؛
* انتشار الأسلحة الجرثومية وإمكان تسرب الأشعة النووية أو انفلات فيروسات مدمرة من داخل الأقبية؛
* حياة بشرية حديثة ينتابها قلق مضن بنسبة 40% ! حتى إنها باتت تشكل خصوصية لا مندوحة عنها لإنسان الألفية الثالثة.
ماذا سيجري عقب الحجر الصحي شبه العالمي؟!
لاحظ العديد من خبراء البيئة والبيولوجيا أن من أبرز تداعيات الحجر الصحي، الذي دعت إليه ضرورة الوقاية من وباء كورونا المستجد، أن الحياة الطبيعية ستستعيد بعض عافيتها وخصوصياتها؛ كاستنشاق الهواء النقي وصفاء المياه والفضاء، علاوة على تنفس الأرض وإفرازاتها لديدان وحشرات نادرا ما تظهر على السطح... كما أن أحزمة المدن والضواحي والغابات ستشهد خروج قطعان حيوانات ضارية بالليل واقتحامها لممرات وشوارع مقفرة، وكأنها خرجت لتسترجع ملكيتها على مناطق ما كان ليسمح لها الإنسان بالاقتراب منها، هذا ودون أن نغفل عن جانب حيوي داخل نفسية الإنسان التي اعتادت الصدمات السلبية باحتكاكها مع آخرين تضيق بهم الحارات والطرقات والشوارع.. في شكل رفع لأبواق السيارات وضجيج المحركات ولغط الباعة، وما يتخلل ذلك من سجالات وصدامات واحتكاكات...
لكن الأخطر في كل هذا التحول هو أن ينتهي الحجر الصحي، مهما عمر وامتد، لتعقبه حالة شاذة حينما ستظهر المعالم الأولى لبشر ينزل إلى الشوارع، حينها ستتعثر بعض عاداته القديمة، كالجري والتجمعات والاختلاط ورفع الأصوات.. أما السياقة فستكون حتما بمثابة نزول الإنسان على سطح القمر وخطواته الأولى، وهو يتأمل ما حوله من بشر وحجر وشجر وحيوان... ومن يدري فقد يصطدم بحيوانات جاءت لتحل محله في الشوارع والأزقة والدروب والطرقات!.
تعليقات
إرسال تعليق